الرئيسية كتاب الرأي «انحطاط»… إلكتروني..

«انحطاط»… إلكتروني..

كتبه كتب في 31 يوليو 2013 - 12:37 م
مشاركة
AisPanel

مصطفى المسناويalmessnawi@almassae.press.ma


بفضل انتشار الإنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي، كما يطلق عليها، وسهولة التواصل عبرها، صار كثير من الناس يتوهمون أن المعرفة لم تكن موجودة قبلهم وأنها انطلقت معهم هم بالذات، فأخذوا يبادرون إلى تقمص دور المفكر العارف الخطيب المفوّه ويشرعون في توجيه نصائحهم وأفكارهم إلى الناس، معتقدين أن ما يتفوهون به فريد من نوعه لم يسبقهم إليه أحد في العالمين، ويهم جميع مناحي الحياة: من الدين إلى السياسة، مرورا بعلم الاجتماع وعلم النفس والأدب والفنون… إلى غير ذلك.
وبطبيعة الحال، فإن كثيرا من الآراء المعبّر عنها بهذه الطريقة تثير ضحك المبحرين عبر الإنترنيت وتخلق لديهم مواضيع يومية للتفكه وإبداء التعاليق الساخرة، من شأنها أن تزري بكل فكاهة التلفزيون الرمضانية التي لم يدرك أصحابها بعد أننا خرجنا من عصر التلفزيون «الحجري» ودخلنا عصر «القرية الصغيرة» (كان اسمها «العالم»، سابقا) من أوسع أبوابه.
الجميل في الأمر أن بعض هؤلاء المتحدثين الإلكترونيين، ورغم إثارتهم ضحكَ متابعيهم، تمكنوا من الخروج من العالم الافتراضي لشبكة الإنترنيت إلى العالم الواقعي وفرض أنفسهم كـ«نجوم» على هؤلاء المبحرين؛ خالقين بذلك نوعا من الالتباس التاريخي الكبير: فبينما يعتبرهم جمهور الإنترنيت مجرد مضحكين ويتخذهم موضوعا للتفكّه والسخرية، ينظرون هم إلى أنفسهم باعتبارهم قادة للفكر والرأي في وقتنا الراهن، فيوجهون الدروس والفتاوى ذات اليمين وذات الشمال، بطلب أو بغير طلب، بل ويفرضون أنفسهم كموجهين للرأي العام، تحظى أقوالهم باهتمام صحافة تبحث عن القارئ بـ«الريق الناشف»، إلى درجة أن بعض الناس صاروا يصدقون أن لدى هؤلاء (سواء كانوا «أخا» أو «أختا») شيئا ما يقولونه لهم فعلا، ويتابعون أقوالهم باهتمام كبير.
إن حال هؤلاء المتحدثين الإلكترونيين لا يختلف كثيرا عما يقوم به هاوي الرسم الذي لم يسبق له أن شاهد لوحة فنية في حياته، كما لم يسبق له أن ألقى ولو نظرة عابرة على تاريخ الفن، بمدارسه وتياراته وأبرز أسمائه، ويصرّ، مع ذلك، على القول بأن اللوحة التي يرسمها (أو يخربشها، في الحقيقة) هي تحفة فنية غير مسبوقة في التاريخ. والمشكل هنا أننا نجد من يصدّق هذا القول، فيظهر، إلى جانب هذا الرسام الهاوي، ناقد أو صحافي أمي، لم يسبق له، بدوره، أن زار متحفا أو لقـّنه أحدهم ألفباء النقد الفني، يعمل على تمجيد هاوي الرسم والرفع من شأنه إلى درجة تزول معها الحدود بين الجمال والقبح، ويغيب الرسامون الحقيقيون وتاريخ الفن بأسمائه البارزة، لكي يعلى من شأن الرداءة التي صارت تعمم على الجميع؛ ليس فقط لأن «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق»، كما يقال، ولكن لأن الأمية تعاضد بعضها البعض، ضد كل علم وضد كل معرفة.
لقد كانت الشكوى ترتفع، في الماضي، ضد القيود والحواجز والرقابات المفروضة على الفكر والإبداع؛ وحين زال الكثير من تلك الحواجز والقيود وتضاءلت الرقابة الخارجية إلى حدّ بعيد (بفضل التواصل الإلكتروني)، وجدنا أنفسنا أمام خطر جديد، يتمثل في اختلاط الحابل والنابل وصعوبة تمييز الأفكار الصائبة عن غيرها والإبداع الفعلي عما يشتبه به؛ وصار «الجاهل» يفتح فمه لمقارعة العالم، لا بالحجة والبرهان ولكن بالإفحام وحشد الأنصار والمعجبين، محرّفا الفكر نحو مسارب ثانوية تلهي الناس وتشغلهم بدل أن تنير عقولهم وتضيء دربهم. هكذا، وفي فترة تاريخية حرجة مثل التي نعيشها في الوقت الراهن، بدل فهم ما يجري في مصر، مثلا، من تفكيك للمشروع الأمريكي الخاص بمنطقتنا (سبق أن اتخذ شعارا له «الفوضى الخلاقة») يحوّل البعض اهتمامنا، عنوة، نحو «فتاوى» عن الاحتكاك في الحافلات، ونحو أخبار عن عملية تجميلية أجرتها مغنية مبتدئة على أنفها أو عن زواج تقوم بتحضيره أخرى مع ثري من أجل ماله.
بذلك تتحول الشبكة العنكبوتية، عندنا، من بوابة منفتحة على العالم إلى أداة لتأبيد الانحطاط.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الجريدة الإلكترونية تيفلت بريس Tifeltpress.com المؤسسة الصحفية: TIF PRESS شهادة إيداع مسلمة من النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية بالخميسات تحت رقم 01/2018 طبقا لقانون الصحافة والنشر 88.13 tifeltpress@gmali.com الشركة المستضيفة : heberfacile